سورة القصص - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{المدينة}، قال ابن عباس: هي منف. ركب فرعون يوماً وسار إليها، فعلم موسى عليه السلام بركوبه، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة، وعنه بين العشاء والعتمة. وقال ابن إسحاق: المدينة مصر بنفسها، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وخاف، فدخلها متنكراً حذراً متغفلاً للناس. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه من المدينة، فغاب عنها سنين، فنُسي، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به. وقيل: كان يوم عيد، وهم مشغولون بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر. وقيل: المدينة عين شمس. وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين. وقيل: الإسكندرية. وقرأ أبو طالب القارئ: {على حين}، بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض، كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ***
وهذا توجيه شذوذ. وقرأ نعيم بن ميسرة: يقتلان. بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف. قيل: كانا يقتتلان في الدين، إذ أحدهما إسرائيلي مؤمن والآخر قبطي. وقيل: يقتتلان، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين. وقال ابن عطية: يقتتلان في موضع الحال. انتهى. والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط. {هذا من شيعته}: أي ممن شايعه على دينه، وهو الإسرائيلي. قيل: وهو السامري، وهذا من عدوه، أي من القبط. وقيل: اسمه فاتون، وهذا حكاية حال، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما، أو لحكاية الحال، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب. قال جرير:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا
وقرأ الجمهور: {فاستغاثة}، أي طلب غوثه ونصره على القبطي. وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني: بالعين المهملة والنون بدل الثاء، أي طلب منه الإعانة على القبطي. قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولى في هذا الباب. وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى. وليست تصحيفاً، فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني. وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك، يعني الحطب، فاشتد غضب موسى، وكان قد أوتي قوة، {فوكزه}، فمات. وقرأ عبد الله فلكزه، باللام، وعنه: فنكزه، بالنون. قال قتادة: وكزه بعصاه؛ وغيره قال: بجمع كفه، والظاهر أن فاعل {فقضى} ضمير عائد على موسى. وقيل: يعود على الله، أي فقضى الله عليه بالموت.
ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه، أي فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله، ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم موسى. وروي أنه دفنه في الرمل وقال: {هذا من عمل الشطان}، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه، لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله. وعن ابن جريج: ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر. وقال كعب: كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله خطأ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل. وقال النقاش: كان هذا قبل النبوة، وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال: {ظلمنا أنفسنا} والباء في {بما أنعمت} للقسم، والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة، والجواب محذوف، أي لأتوبن، {فلن أكون}، أو متعلقة بمحذوف تقديره: اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، {فلن أكون} إن عصمتني {ظهيراً للمجرمين}. وقيل: {فلن أكون} دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر:
لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت *** لهم خالداً خلود الجبال
والمظاهرة، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده. وقيل: بما أنعمت عليّ من النبوّ، فلن أستعملها إلاّ في مظاهرة أوليائك، ولا أدع قبطياً يغلب إسرائيلياً. واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره. وقال رجل لعطاء: إن أخي يضرب بعلمه ولا يعدو رزقه، قال: فمن الرأس، يعني من يكتب له؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: فأين قول موسى؟ وتلا الآية: {فأصبح في المدينة خائفاً} من قبل القبطي أن يؤخذ به، يترقب وقوع المكروه، به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه؟ قيل: خائفاً من أنه يترقب المغفرة. وقيل: خائفاً يترقب نصرة ربه، أو يترقب هداية قومه، أو ينتظر أن يسلمه قومه. {فإذا الذي استنصره بالأمس}: أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه. وإذا هنا للمفاجأة، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وهو معرب، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل، بخلاف حاله إذا عري منها، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقاً، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور. قال الشاعر:
وإني حسبت اليوم والأمس قبله *** إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب
{يستصرخه}: يصيح به مستغيثاً من قبطيّ آخر، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الطنابيب
قال له موسى: الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي {إنك لغوي مبين} لكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل: الضمير في له، والخطاب للقبطي، ودل عليه قوله: يستصرخه، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي. {فلما أن أراد أن يبطش}: الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى. {بالذي هو عدو لهما}: أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله: {إنك لغوي مبين} هو على سبيل إرادة السوء به، وظن أنه يسطو عليه. قال، أي الإسرائيلي: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس}، دفعاً لما ظنه من سطو موسى عليه، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى، ونمى ذلك إلى فرعون، فأمر بقتل موسى. وقيل: الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى، وخاطبه بما يقبح، وأن بعد لما يطرد زيادتها. وقيل: لو إذا سبق قسم كقوله:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم *** لكان لكم يوم من الشر مظلم
وقرأ الجمهور: يبطش، بكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر: بضمها. {إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض}: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي: من قتل رجلين فهو جبار، يعني بغير حق، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح. {وجاء رجل من أقصى المدينة}، قيل: هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون. قال الكلبي: واسمه جبريل بن شمعون. وقال الضحاك: شمعون بن إسحاق. وقيل: هو غير مؤمن آل فرعون. {يسعى}: يشتد في مشيه. ولما أمر فرعون بقتله، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم، فسلك هذا الرجل طريقاً أقرب إلى موسى. ومن أقصى المدينة، ويسعى: صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالاً، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء. قال الزمخشري: وإذا جعل، يعني، من أقصى حالاً، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف. انتهى. يعني: أن رجلاً يكون نكرة لم توصف، فلا يجوز منها الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف. قال: {إن الملأ}، وهم وجوه أهل دولة فرعون، {يأتمرون}: يتشاورون، قال الشاعر، وهو النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر
وقال ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضاً بقوله، من قوله تعالى: {وائتمروا بينكم بمعروف} {فاخرج إني لك من الناصحين}. ولك: متعلق إما بمحذوف، أي ناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما. وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل، وعلم صدقه ونصحه، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه. وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحب أحداً، فسلك مجهلاً، واثقاً بالله تعالى، داعياً راغباً إلى ربه في تنجيته من الظالمين.


{توجه}: رد وجهه. و{تلقاء}: تقدم الكلام عليه في يونس، أي ناحية وجهه. استعمل المصدر استعمال الظرف، وكان هناك ثلاث طرق، فأخذ موسى أوسطها، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا: المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلاّ بنياتها. فبقي في الطريق ثماني ليال وهو حاف، لا يطعم إلا ورق الشجر. والظاهر من قوله: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل}، أنه كان لا يعرف الطريق، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه. وعن ابن عباس: قصد مدين وأخذ يمشي من غير معرفة، فأوصله الله إلى مدين. وقيل: هداه جبريل إلى مدين. وقيل: ملك غيره. وقيل: أخذ طريقاً يأمن فيه، فاتفق ذهابه إلى مدين. والظاهر أن سواء السبيل: وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. وقال مجاهد: سواء السبيل: طريق مدين. وقال الحسن: هو سبيل الهدى، فمشى موسى عليه السلام إلى أن وصل إلى مدين، ولم يكن في طاعة فرعون.
{ولما ورد ماء مدين}: أي وصل إليه، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء، وبمعنى الدخول فيه. قيل: وكان هذا الماء بئراً. والأمة: الجمع الكثير، ومعنى عليه: أي على شفيره وحاشيته. {يسقون}: يعني مواشيهم. {ووجد من دونهم}: أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة، فهما من دونهم بالإضافة إليه، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: في مكان أسفل من مكانهم. {تذودان}، قال ابن عباس وغيره: تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء. وقال قتادة: تذودان الناس عن غنمهما. قال الزجاج: وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل: لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم. وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما. وقال الفراء: تحبسانها عن أن تتفرق، واسم الصغرى عبرا، واسم الكبر صبورا.
ولما رآهما موسى عليه السلام واقفتين لا تتقدمان للسقي، سألهما فقال: {ما خطبكما}؟ قال ابن عطية: والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر. قال الزمخشري: وحقيقته: ما مخطوبكما؟ أي ما مطلوبكما من الذياد؟ سمى المخطوب خطباً، كما سمى الشؤون شأناً في قولك: ما شأنك؟ يقال: شانت شأنه، أي قصدت قصده. انتهى. وفي سؤاله عليه الصلاة والسلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعنّ ولم يكن لأبيهما أجير، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء، ولم تكن لهما قوة الإستقاء، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم، فإذا صدروا، فإن بقي في الحوض شيء سقتا. فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء، فرق عليهما وقال: {ما خطبكما}؟ وقرأ شمر: بكسر الخاء، أي من زوجكما؟ ولم لا يسقي هو؟ وهذه قراءة شاذة نادرة.
{قالتا لا نسقي}. وقرأ ابن مصرف: لا نسقي، بضم النون. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة، والعربيان: يصدر، بفتح الياء وضم الدال، أي يصدرون بأغنامهم؛ وباقي السبعة، والأعرج، وطلحة، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وعيسى: بضم الياء وكسر الدال، أي يصدرون أغنامهم. وقرأ الجمهور: الرعاء، بكسر الراء: جمع تكسير. قال الزمخشري: وأما الرعاء بالكسر فقياس، كصيام وقيام. انتهى. وليس بقياس، لأنه جمع راع؛ وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرئ: الرعاء، بضم الراء، وهو اسم جمع، كالرخال والثناء. قال أبو الفضل الرازي: وقرأ عياش، عن أبي عمرو: الرعاء، بفتح الراء، وهو مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف. {وأبونا شيخ كبير}: اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
{فسقى لهما}: أي سقى غنمهما لأجلهما. وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا عدد من الرجال، واضطرب النقل في العدد، فأقل ما قالوا سبعة، وأكثره مائة، فأقله وحده. وقيل: كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون، فنزع بها وحده. وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع، حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل. وقيل: إنه مشى حتى سقط أصله، وهو باطن القدم، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي. وقد طابق جوابهما لسؤاله. سألهما عن سبب الذود، فأجاباه: بأنا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، فتؤخر السقي إلى فراغهم. ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر والأعاجم، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة. {ثم تولى إلى الظل}، قال ابن مسعود: ظل شجرة. قيل: كانت سمرة. وقيل: إلى ظل جدار لا سقف له. وقيل: جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس. {فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}، قال المفسرون: تعرض لما يطعمه، لما ناله من الجوع، ولم يصرح بالسؤال؛ وأنزلت هنا بمعنى تنزل. وقال الزمخشري: وعدى باللام فقير، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. ويحتمل أن يريد، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له. وقال الحسن: سأل الزيادة في العلم والحكمة.
{فجاءته إحداهما تمشي على استحياء}: في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تدعوه له.
{فجاءته إحداهما}. قرأ ابن محيصن: فجاءته إحداهما، بحذف الهمزة، تخفيفاً على غير قياس، مثل: ويل امه في ويل أمه، ويابا فلان، والقياس أن يجعل بين بين، وإحداهما مبهم. فقيل: الكبرى، وقيل: كانتا توأمتين، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار. وعلى استحياء: في موضع الحال، أي مستحيية متحفزة. قال عمر بن الخطاب: قد سترت وجهها بكم درعها؛ والجمهور: على أن الداعي أباهما هو شعيب عليه السلام، وهما ابنتاه. وقال الحسن: هو ابن أخي شعيب، واسمه مروان. وقال أبو عبيدة: هارون. وقيل: هو رجل صالح ليس من شعيب ينسب. وقيل: كان عمهما صاحب الغنم، وهو المزوج، عبرت عنه بالأب، إذ كان بمثابته. {ليجزيك أجر ما سقيت لنا}، في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملاً، وإن لم يقصد العالم المكافأة.
{فلما جاءه}: أي فذهب معهما إلى أبيهما، وفي هذا دليل على اعتماد أخبار المرأة، إذ ذهب معها موسى، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية. {وقص عليه القصص}: أي ما جرى له من خروجه من مصر، وسبب ذلك. {قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين}: أي قبل الله دعاءك في قولك: {رب نجني من القوم الظالمين}، أو أخبره بنجاته منهم، فأنسه بقوله: {لا تخف}، وقرب إليه طعاماً، فقال له موسى: إنا أهل بيت، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً، فقال له شعيب: ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة آبائي قري الضيف وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى عليه السلام.
{قالت إحداهما}: أبهم القائلة، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة، {يا أبت استأجره}: أي لرعي الغنم وسقيها. ووصفته بالقوة: لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده، وانتزع بتلك الدلو، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء؛ وبالأمانة: لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها، فقال: ارجعي خلفي ودليني على الطريق. وقولها كلام حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر، فقد تم المقصود، وهو كلام جرى مجرى المثل، وصار مطروقاً للناس، وكان ذلك تعليلاً للاستئجار، وكأنها قالت: استأجره لأمانته وقوته، وصار الوصفان منبهين عليه. ونظير هذا التركيب قول الشاعر:
ألا إن خير الناس حياً وهالكاً *** أسير ثقيف عندهم في السلاسل
جعل خير من استأجرت الاسم، اعتناء به. وحكمت عليه بالقوة والأمانة. ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها: ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح؛ وقاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم. وقيل: قال لها موسى ابتداء: كوني ورائي، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء، ودليني على الطريق يميناً أو يساراً.
وقال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله: {عسى أن ينفعنا} وأبو بكر في عمر. وفي قولها: {استأجره}، دليل على مشروعية الإجارة عندهم، وكذا كانت في كل ملة، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة، خلافاً لابن علية والأصم، حيث كانا لا يجيزانها؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع، وخلافهما خرق.
{قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين}: رغب شعيب في مصاهرته، لما وصفته به، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة. وقرأ ورش، وأحمد بن موسى، عن أبي عمرو: أنكحك إحدى، بحذف الهمزة. وظاهر قوله: {أن أنكحَك}، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأ فيه، خلافاً لأبي حنيفة في بعض صوره، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج، وقد فعل ذلك عمر، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا بلغت البكر، فلا تزوج إلا برضاها. قيل: وفيه دليل على قول من قال: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج، أو الإنكاح، وبه قال ربيعة، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود. وإحدى ابنتي: مبهم، وهذا عرض لا عقد. ألا ترى إلى قوله: {إني أريد}؟ وحين العقد يعين من شاء منهما، وكذلك لم يحدّ أول أمد الإجارة. والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة، وبه قال الشافعي وأصحابه وابن حبيب. وقال الزمخشري: {هاتين}، فيه دليل على أنه كانت له غيرهما. انتهى. ولا دليل في ذلك، لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان، وجاءته إحداهما، فأشار إليهما، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما. {على أن تأجرني} في موضع الحال من ضمير أنكحك، إما الفاعل، وإما المفعول. وتأجرني، من أجرته: كنت له أجيراً، كقولك: أبوته: كنت له أباً، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك. و{ثماني حجج}: ظرف، وقاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: حجج: مفعول به، ومعناه: رعيه ثماني حجج. {فإن أتممت عشراً فمن عندك}: أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط. {وما أريد أن أشق عليك} بإلزام أيّم الأجلين، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط. {ستجدني إن شاء الله من الصالحين}: وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة ووطاءة الخلق، أو من الصالحين على العموم، فيدخل تحته حسن المعاملة.
ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى، قال موسى: {ذلك بيني وبينك}، على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني حجج. وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك، إشارة إلى ما عاهده عليه، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، ثم قال: {أيما الأجلين}، أي الثماني أو العشر؟ {فلا عدوان عليّ}: أي لا يعتدى عليّ في طلب الزيادة، وأي شرط، وما زائدة.
وقرأ الحسن، والعباس، عن أبي عمرو: أيما، بحذف الياء الثانية، كما قال الشاعر:
تنظرت نصراً والسماكين أيما *** علي من الغيث استهلت مواطره
وقرأ عبد الله: أي الأجلين ما قضيت، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت. قال الزمخشري فإن قلت: ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي زائدة في شياعها وفي الشاذ، تأكيداً للقضاء، كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له؟ وقرأ أبو حيوة، وابن قطيب: فلا عدوان، بكسر العين. قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما، ولكن جمعهما، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. وقال الزمخشري: تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر، وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر، كان عدواناً لا شك فيه، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني. أراد بذلك تقرير الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأن الأجلين على السواء، إما هذا، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأما التتمة فموكولة إلى رأيي، إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم عليّ ولا تبعة. انتهى، وجوابه الأول فيه تكثير. {والله على ما نقول}: أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا، {وكيل}: أي شاهد. وقال قتادة: حفيظ. وقال ابن شجرة: رقيب، والوكيل الذي وكل إليه الأمر، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدى بعلى.
{فلما قضى موسى الأجل}: جاء على النبي صلى الله عليه وسلم أنه وفي أطول الأجلين، وهو العشر. وعن مجاهد: وفي عشر أو عشراً بعدها، وهذا ضعيف. {وسار بأهله}: أي نحو مصر بلده وبلد قومه. والخلاف فيمن تزوّج، الكبرى أم الصغرى، وكذلك في اسمها. وتقدّم كيفية مسيره، وإيناسه النار في سورة طه وغيرها. وقرأ الجمهور: جذوة، بكسر الجيم؛ والأعمش، وطلحة، وأبو حيوة، وحمزة: بضها؛ وعاصم، غير الجعفي: بفتحها. {لعلكم تصطلون}: أي تتسخنون بها، إذ كانت ليلة باردة، وقد أضلوا الطريق.


من، في: من شاطئ، لابتداء الغاية، ومن الشجرة كذلك، إذ هي بدل من الأولى، أي من قبل الشجرة. والأيمن: يحتمل أن يكون صفة للشاطئ وللوادي، على معنى اليمن والبركة، أو الأيمن: يريد المعادل للعضو الأيسر، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى، لا للشاطئ، ولا للوادي، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي، أو بعكس ذلك؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول. وقرأ الأشهب العقيلي، ومسلمة: في البقعة، بفتح الباء. قال أبو زيد: سمعت من العرب: هذه بقعة طيبة، بفتح الباء، ووصفت البقعة بالبركة، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة. ويتعلق في البقعة بنودي، أو تكون في موضع الحال من شاطئ. والشجرة عناب، أو عليق، أو سمرة، أو عوسج، أقوال. وأن: يحتمل أن تكون حرف تفسير، وأن تكون مخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة: {إني أنا}، بفتح الهمزة، وفي إعرابه إشكال، لأن إن، إن كانت تفسيرية، فينبغي كسر إني، وإن كانت مصدرية، تتقدر بالمفرد، والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية، وإني معمول لمضمر تقديره: إني يا موسى أعلم إني أنا الله.
وجاء في طه: {نودي يا موسى إني أنا ربك} وفي النمل: {نودي أن بورك من في النار} وهنا: {نودي من شاطئ}، ولا منافاة، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء. والجمهور: على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة. وقال الحسن: ناداه نداء الوحي، لا نداء الكلام. وتقدم الكلام على نظير قوله: {وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب}، ثم أمره فقال: {اسلك يدك في جيبك}، وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس، وكان كم الجبة في غاية الضيق. وتقدّم الكلام على: {تخرج بيضاء من غير سوء} وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ، وبجيب مدرعته. والرهب: الخوف، وتأتي القراءات فيه. وقيل: بفتح الراء والهاء: الكم، بلغة بني حنيفة وحمير، وسمع الأصمعي قائلاً يقول: اعطني ما في رهبك، أي في كمك، والظاهر حمل: {واضمم إليك جناحك من الرهب} على الحقيقة.
قال الثوري: خاف موسى أن يكون حدث به سوء، فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءاً بل آية من الله. وقال مجاهد، وابن زيد: أمره بضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى جنبه، ليخف بذلك فزعه. ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه. وقيل: لما انقلبت العصا حية، فزع موسى واضطرب، فاتقاها بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى، وهذا القول بسطه الزمخشري، لأنه كالتكرار لقوله: {اسلك يدك في جيبك}.
وقد قال هو والجناح هنا اليد، قال: لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. وقيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها، فاضممها إليك تسكن. وقالت فرقة: هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به، كما تقول العرب: أشدد حيازيمك واربط جأشك، أي شمر في أمرك ودع الرهب، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن، قاله أبو علي، وكأنه طيره الفزع، وآلة الطيران الجناح. فقيل له: اسكن ولا تخف، وضم منشور جناحك من الخوف إليك، وذكر هذا القول الزمخشري، فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى {من الرهب}: من أجل الرهب، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية، فاضمم إليك جناحك. جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: {واضمم إليك جناحك}، وقوله: {اسلك يدك في جيبك} على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح، وهو اليد، في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {واضمم إليك جناحك}، {واضمم يدك إلى جناحك} فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح. ومن بدع التفاسير أن الرهب: الكم، بلغة حمير، وأنهم يقولون: اعطني ما في رهبك؛ وليت شعري؛ كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري: كيف موقعه في الآية؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى، صلوات الله عليه، ما كان عليه ليلة المناجاة إلاَّ زرماتقة من صوف، لا كمين لها. انتهى. أما قوله: وهل سمع من الأثبات؟ وهذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة ثبت. وأما قوله: كيف موقعه من الآية؟ فقالوا: معناه أخرج يدك من كمك، وكان قد أخذ العصا بالكم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: من الرهب، بفتح الراء والهاء؛ وحفص: بفتح الراء وسكون الهاء؛ وباقي السبعة: بضم الراء وإسكان الهاء. وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري: بضمهما.
{فذانك}: إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، ولكن ذكرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ: ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في تكن.
{برهانان}: حجتان نيرتان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فذانك، بتشديد النون؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبو نوفل، وابن هرمز، وشبل: فذانيك، بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل. وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضاً: فذانيك، بفتح النون قبل الياء، على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله:
على أحوذيين استقلت عشية ***
وقرأ ابن مسعود: بتشديد النون مكسورة بعدها ياء. قيل: وهي لغة هذيل. وقال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها. و{إلى فرعون}: يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره: اذهب إلى فرعون. {قال رب إني قتلت منهم نفساً}: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ. و{أفصح}: يدل على أنه فيه فصاحة، ولكن أخوه أفصح. {فأرسله معي ردأ}: أي معيناً يصدقني، ليس المعنى أنه يقول لي: صدقت، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح، وإنما المعنى: أنه لزيادة فصاحته يبالغ في التبيان، وفي الإجابة عن الشبهات، وفي جداله الكفار. وقرأ الجمهور: ردأ، بالهمزة؛ وأبو جعفر، ونافع، والمدنيان: بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل، ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم، وحمزة: يصدقني، بضم القاف، فاحتمل الصفة لردأ، والحال احتمل الاستئناف. وقرأ باقي السبعة: بالإسكان. وقرأ أبي، وزيد بن علي: يصدقوني، والضمير لفرعون وقومه. قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنه لو كان رفعاً لقال: يصدقونني. انتهى، والجزم على جواب الأمر. والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي، فأجابه تعالى إلى طلبته وقال: {سنشد عضدك بأخيك}. وقرأ زيد بن علي، والحسن: عضدك، بضمتين. وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد. وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد؛ وفتحهما، قرأ به عيسى، ويقال فيه: عضد، بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحداً قرأ به. والعضد: العضو المعروف، وهي قوام اليد، ويشدتها يشتد. قال الشاعر:
أبني لبيني لستما بيد *** إلا يداً ليست لها عضد
والمعنى فيه: سنقويك بأخيك. ويقال في الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فتّ الله في عضدك. والسلطان: الحجة والغلبة والتسليط. {فلا يصلون إليكما}: أي بسوء، أو إلى إذايتكما. ويحتمل {بآياتنا} أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وإن كان موصولاً على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل، وإن كان عنده موصولاً على سبيل الاتساع، أو بفعل محذوف، أي اذهبا بآياتنا. كما علق في تسع آيات باذهب، أو على البيان، فالعامل محذوف، وهذه أعاريب منقولة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قسماً جوابه {فلا يصلون} مقدماً عليه، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنه قسم جوابه {فلا يصلون}، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء. وأما قوله: أو من لغو القسم، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر له جواب، بل حذف لدلالة عليه، أي بآياتنا لتغلبن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5